احترام العالم : وليجلس بين يديه متأدباً ، ويظهر غاية حاجته إلى علمه ،ويدعوا له حاضراً وغائباً ، وإذا أتحفه بفائدة أو توضيح لمشكل ، فلا يظهر أنه قد عرفه قبله ، وإن كان عارفاً له ، بل يصغي غليه إصغاء المتطلب المتطلب بشدة إلى الفائدة . هذا فيما يعرفه ، فكيف بما لم يعرفه ، ولهذا كان هذا الأدب مستحسناً مع كل أحد في العلوم والمخاطبات في الأمور الدينية والدنيوية .
العمل إذا أخطأ المعلم : وإذا أخطأ المعلم في شيء فلينبهه برفق ولطف بحسب المقام ، ولا يقول له : أخطأت ، أو ليس الأمر كما تقول ، بل يأتي بعبارة لطيفة يدرك بها المعلم خطأه من دون أن يتشوش قلبه ، فإن هذا من الحقوق اللازمة وهو أدعى إلى الوصول إلى الصواب ، فإن الرد الذي يصحبه سوء الأدب وإزعاج القلب يمنع من تصور الصواب ومن قصده .
الرجوع عن الخطأ : وكما أن هذا لازم على المتعلم ، فعلي المعلم إذا أخطأ أن يرجع إلى الحق ، ولا يمنعه قول قاله ثم رأى الصواب في خلافه من مراجعة الحق والرجوع إليه ، فإن هذا علامة الإنصاف والتواضع للحق فالواجب اتباع الصواب ، سواء جاء علي يد الصغير أو الكبير .
ومن نعمة الله علي المعلم أن يجد من تلاميذه من ينبهه على خطئه ، ويرشده إلى الصواب ، ليزول استمراره على جهله فهذا يحتاج إلى شكر الله تعالى ، ثم على شكر من أجري الله الهدى على يديه متعلماً كان أو غيره .
قول العالم : الله أعلم فيما لا يعلم : ومن أعظم ما يجب علي المعلمين أن يقولوا لما لا يعلمونه : الله أعلم ، وليس هذا بناقص لأقدارهم ، بل هذا مما يزيد قدرهم ، ويستدل به على كمال دينهم ،وتحريهم للصواب .
فوائد التوقف عما لا يعلم : وفي توقفه عما لا يعلم فوائد كثيرة .
منها : أن هذا هو الواجب عليه .
ومنها أنها إذا توقف وقال : الله أعلم فما أسرع ما يأتيه علم ذلك من مراجعته غيره فإن المتعلم إذا رأي معلمه قد توقف جد واجتهد في تحصيل علمها ، والتحاف المعلم بها ، فما أحسن هذا الأثر .
ومنها أنه إذا توقف فيما لا يعرف ، كان دليلاً على ثقته وأمانته وإتقانه فيما يجزم به المسائل ، كما أن من عرف منه الإقدام على الكلام فيما لا يعلم كان ذلك داعياً للريب في كل ما يتكلم به ، حتى في الأمر الواضحة .
ومنها : أن المعلم إذا رأي منه المتعلمون التوقف فيما لا يعلم كان ذلك تعليماً لهم وإرشاداً لهذه الطريقة الحسنة ، والإقتداء بالأحوال والأعمال ابلغ من الإقتداء بالأقوال .
المناظرة بين المتعلمين : ومما يعين على هذا المطلوب أنه يفتح المعلم للمتعلمين باب المناظرة في المسائل والاحتجاج ، وأن يكون القصد واحداً ، وهو إتباع ما رجحته الأدلة ، فإنه إذا جعل هذا الأمر نصب عينيه وأعينهم تنورت الأفكار وعرفت المآخذ والبراهين، واتبعت الحقائق وكان القصد الأصلي معرفة الحق وإتباعه .
ذم التعصب : فالحذر الحذر من التعصب للأقوال والقائلين ، وهو أن يجعل القصد من المناظرة والمباحثة نصر القول الذي قاله ، أو قاله من يعظمه ، فإن التعصب مذهب للإخلاص ، مزيل لبهجة العلم ، معم للحقائق ، فاتح باب الحقد والخصام الضار ،كما أن الإنصاف هو زينة العلم وعنوان الإخلاص والنصح والفلاح .
التحذير من طلب العلم للدنيا : ثم الحذر الحذر من طلب العلم للأغراض الفاسدة والمقاصد السيئة من المباهاة ، والمماراة ، والرياء ،والسمعة ، وأن يجعله وسيلة للأمور الدنيوية والرياسة ، فليست هذه حال أهل العلم الذين هم أهله في الحقيقة ومن طلب العلم أو استعمله في أغراضه السيئة فليس له في الآخرة من خلاق .
العمل بالعلم : ومن أعظم ما يتعين على أهل العلم الاتصاف بما يدعوا إليه العلم من الأخلاق ، والأعمال ، والتعليم ، فهو أحق الناس بالاتصاف بالأخلاق الجميلة ، والتخلي من كل خلق رزيل ،وهم أولى الناس بالقيام بالواجبات الظاهرة والباطنة وترك المحرمات لما تميزوا به من العلم والمعارف التي لم تحصل لغيرهم ،ولأنهم قدوة للناس ،والناس مجبولون على الإقتداء بعلمائهم شاءوا أم أبوا في كثير من أمورهم ، ولأنهم يتطرق إليهم من الاعتراضات والقوادح عندما يتركون ما يدعوا إليه العلم أعظم مما يتطرق على غيرهم .
وأيضاً فكان السلف يستعينون بالعمل بالعلم علي العلم فإن عمل به استقر ودام ونما وكثرت بركته ،وإن ترك العمل به ذهب أو عدمت بركته ، فروح العلم وحياته وقيامه إنما هو بالقيام به عملاً وتخلقاً ، وتعليماً ونصحاً ولا حول ولا قوة إلا بالله ألعلي العظيم .
طريقة التعليم : وينبغي سلوك الطريق النافع عند البحث تعلماً وتعليماً ، فإذا شرع المعلم في مسألة وضحها ، وأوصلها إلي أفهام المتعلمين بكل ما يقدر عليه من التعبير ، وضرب الأمثال ، والتصوير والتحرير.
ثم لا ينتقل منها إلى غيرها قبل تفهيمها للمتعلمين ، ولا يدع المتعلمين يخرجون من الموضوع الذي لم يتم تعليمه وتقريره إلى موضوع آخر حتى يحكموه ويفهموه ، فإن الخروج من الموضوع إلى غيره قبل الانتهاء منه يحرم الفائدة كما تقدم .
تعاهد محفوظات المتعلمين : وينبغي تعاهد محفوظات المتعلمين ومعلوماتهم بالإعادة والامتحان ، والحث علي المذاكرة والمراجعة ،وتكرار الدرس فإن التعلم بمنزلة الغرس للأشجار ، الدرس والمذاكرة والإعادة بمثابة السقي لها وإزالة الأشياء الضارة عنها ، لتنموا وتزداد على الدوام .
أدب الزمالة : وكما أن على المعلم توقير معلمه ، والأدب معه ، فكذلك أقرانه ، والمتعلمون معه عليه من مراعاة حقوقهم ، والأدب معهم أعظم من حقوق الأصحاب بعضهم على بعض فالصحبة في طلب العلم تجمع حقوقاً كثيرة ، لان لهم حق الأخوة والصحبة ، وحقوق الانتماء إلى معلمهم وأنهم بمنزلة أولاده ، وحقاً لنفع بعضهم بعضاً
ولهذا ينبغي أن لا يدع ممكنناً من نفع من يقدر علي نفعه منه بتعليمه ما يجهل ، والبحث معه للتعاون على الخير وإرشاده لما فيه نفعه .
وينبغي أن يكون اجتماعهم في كل وقت غنيمة يتعلم فيها القاصر ممن هو اعلي منه ويعلم العارف غير العارف ويتطارحون من المسائل النافعة وليجعلوا همهم معقوداً علي ما هم بصدده .
مضار الاشتغال بالناس : وليحذر من الاشتغال بالناس ، والتفتيش عن أحوالهم ، والعيب لهم ، فإن ذلك إثم حاضر ، والمعصية من أهل العلم أعظم منها من غيرهم ، ولأن غيرهم يقتدى بهم ، ومن كان طبعه الشر من غيرهم جعلهم حجة له ، ولأن الانشغال بالناس يضيع المصالح النافعة ، والوقت النفيس ويذهب بهجة العلم ونوره .
القناعة باليسير : واعلم أن القناعة باليسير والاقتصاد في أمر المعيشة مطلوب من كل أحد ، ولا سيما المشتغلون بالعلم ، فإنه كالمتعين عليهم ، لأن العلم وظيفة العمل كله أو معظمه ، فمتى زاحمته الأشغال الدنيوية والضروريات حصل النقص بحسب ذلك ، والاقتصاد والقناعة من أكبر العوامل لحصر الأشغال الدنيوية ، وإقبال المتعلم على ما هو بصدده .
بث العلم : ومن آداب العالم والمتعلم النصح وبث العلوم النافعة بحسب الإمكان حتى ولو تعلم الإنسان مسألة واحدة ، ثم بثها كان من بركة علمه ، ولأن ثمرات العلم أن يأخذه الناس عنك فمن شح بعلمه ، مات علمه بموته وربما نسيه وهو حي ، كما أن من بث علمه كان حياة ثانية ، وحفظاً لما علمه ، وجازاه الله من جنس عمله